ما إن تقترب فترة حكم الرئيس الأميركي لنهايتها، حتى تتجه الأنظار داخل الولايات المتحدة وخارجها للاستحقاق الانتخابي القادم، وذلك بحكم المكانة الدولية التي تتبوؤها هذه البلاد، ولذلك لم يكن مستغربًا أن تحظى المناظرة التي نظمتها شبكة الـ CNN بين الرئيس جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب باهتمام الرأي العام داخليًا وخارجيًا، إذ بلغ حجم من شاهدها ما يزيد على الواحد والخمسين مليون مشاهد، وهو يعد أقل بكثير من حجم من تابع المناظرة الأولى التي جمعت بينهما في انتخابات 2020 والتي بلغت 80 مليون مشاهد.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن المناظرة ومخرجاتها، فقد أصبح ذلك معلومًا للجميع، ولكننا نحاول عبر هذا المقال تسليط الضوء على أربعة معطيات من شأنها التعزيز من فكرة أن أميركا عند مفترق طرق في موسمها الانتخابي.
انقسام مجتمعي
المعطى الأول عمر كلا المرشحَين؛ إذ لم يسبق في الولايات المتحدة أن شارك كمرشح في السباق الرئاسي مَن بلغ من العمر 81 أو 78 عامًا، فمتوسط أعمار الرؤساء السابقين عند توليهم الرئاسة كان عادة ما بين الـ 52 إلى الـ 65 عامًا. الأمر الثاني هو أن أميركا تعيش أضعف حالاتها كقوة عظمى برزت للوجود عقب الحرب العالمية الثانية، إذ تعاني من حالة انقسام مجتمعي غير مسبوق، وأزمة دَين وطني ظلت تتسع كل يوم، وأزمة سياسية ممثلة في ظهور جيل من الشعبويين لا يؤمن بفكرة الدولة ومؤسّساتها، ولديه الاعتقاد بأنّ القرار السياسي والاقتصادي مختطف لمصلحة فئة محددة تعمل ضده.
وبالتالي فإنّ هذين الأمرين لهما ارتباط مباشر بقدرة الولايات المتحدة على لعب الدور المنوط بها كقوّة عظمى في قادم السنوات.
وما بين حالة انسداد الأفق السياسي المرتكز على وجود مرشحَين من كبار السن، ليست لديهما القدرة على مخاطبة المستقبل وقضاياه، وما بين تطلعات جيل جديد يؤمن بالحرية وتطلعات عالم ينتظر من أميركا أن تلعب دورًا إيجابيًا في دعم الأمن والاستقرار، تذكرت جون إل. أوسوليفان، الذي كتب مقالته الشهيرة الموسومة بـ “أمة المستقبل العظيمة” (The Great Nation of Futurity) التي نشرها في العام 1839 في مجلة الولايات المتحدة “المراجعة الديمقراطية” والذي قال فيها: “إن ولادتنا الوطنية كانت بداية تاريخ جديد، وتشكيل وتقدم نظام سياسي غير مجرب، يفصلنا عن الماضي ويربطنا بالمستقبل فقط.. يمكننا أن نفترض بثقة أن بلادنا مقدر لها أن تكون أمة المستقبل العظيمة”.
فما بين تلك المقالة المنشورة في القرن التاسع عشر والتي ترسم صورة حالمة لوطن ديمقراطي قائم على نظام سياسي مختلف عن بقية أنظمة العالم بمعيار ديمقراطيته والتزامه بحقوق الإنسان وحرص منظريه وقادته على مخاطبة المستقبل وقضاياه بشكل عادل يعود بالنفع على المواطن الأميركي وبقية سكان العالم، وما بين مخرجات المناظرة الرئاسية الأخيرة فرق كبير يستدعي من الجميع الانتباه وإعادة النظر في قدرة الولايات المتحدة على أن تقود العالم إلى فضاء من الحرية، واحترام القيم الأساسية للإنسان والتي من بينها احترام خيارات الشعوب الأخرى في نفس الوقت الذي تواجه فيه تحديات داخلية غير مسبوقة.
تحديات
أمّا المعطى الثاني، فإنَّ الولايات المتحدة وهي مقبلة على الانتخابات العامة تواجه جملة من التحديات الاقتصادية والمجتمعية والسياسية التي ستلعب دورًا حاسمًا ضمن عوامل أخرى في تحديد هُويّة الرئيس القادم، والحزب الذي سيسيطر على الكونغرس بمجلسَيه: (شيوخ ونواب)، بل وسيتعدّى ذلك الداخل الأميركي ليشمل طبيعة السياسة الخارجية المرتقبة للدولة وانعكاساتها على بقية أنحاء العالم.
فعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي لا يزال التضخم مستمرًا واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء باتَ من الأمور المقلقة لكثير من الاقتصاديين والسياسيين على السواء، لدورها في تحديد درجة الاستقرار المجتمعي، وإمكانية انتشار العنف وارتفاع معدل الجريمة.
يأتي ذلك مصحوبًا بارتفاع نسبة الدين الوطني (National Debt) الذي تجاوز حاليًا حاجز الـ 34 تريليون دولار. ووفقًا لـ “إنفيستوبيديا” (Investopedia) (وهي موقع إعلامي مالي عالمي يقع مقره الرئيسي في مدينة نيويورك والذي تأسس عام 1999 ويعد من المواقع الموثوقة في إحصائياته) فإن إجمالي ديون الحكومة قد بلغ 34.83 تريليون دولار اعتبارًا من أبريل/نيسان 2024، والدول الأجنبية التي تتحمل أكبر قدر من الديون الأميركية بالترتيب، هي: اليابان، والصين، والمملكة المتحدة، ولوكسمبورغ، وكندا.
فاليابان تمتلك ما قيمته 1.15 تريليون دولار من إجمالي الدين الأميركي كأكبر دائن، تليها الصين في المرتبة الثانية بما قيمته 770.7 مليار دولار، ثم تليها المملكة المتحدة بما قيمته 710.2 مليارات دولار، ثم تليها لوكسمبورغ بإجمالي مبلغ قيمته 384.4 مليار دولار، لتأتي في المرتبة الخامسة دولة كندا بمبلغ إجمالي هو 338.2 مليار دولار. فقضية الدين الخارجي تُعد عملية معقدة ومتعددة الأوجه ولها آثار كبيرة على المستقبل الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي على حركتها الجيوسياسية كقوة عظمى.
الواقع الاقتصادي المأزوم
هذا الواقع الاقتصادي المأزوم الذي عمق الفجوة بين الأغنياء الذين صاروا أكثر ثراءً والفقراء الذين أصبحوا أكثر فقرًا لا يمكن تجاوز آثاره على العملية الانتخابية من ناحية، وقدرة أي من المتناظرين بايدن أو ترامب في حال فوزه على قيادة دولة تلبي احتياجات 37.9 مليون مواطن يعيشون تحت وطأة الفقر وفقًا لمكتب الإحصاء الأميركي (Census Bureau) – إحصائية 2022 – وهي تعادل نسبة 11% من إجمالي السكان الذين يمثلون كتلة انتخابية مهمة للغاية.
كما أن قدرة الفائز في الانتخابات القادمة على توفير الرعاية الصحية والتعليم الجيدين وحتى تأمين السكن والاستقرار المالي غير قابلة للتحقق بدون طرح خطط وسياسات واضحة لتجاوز هذه الأزمة، وهذا لم يظهر على الإطلاق في المناظرة التي جمعت المرشحين، مما يجعل التحدي قائمًا.
التحدي السياسي
أما التحدي السياسي الذي يواجه أميركا في موسمها الانتخابي هو غياب الأرضية المشتركة بين الحزبين الرئيسيين: الديمقراطي والجمهوري حول أسس النظام الديمقراطي وآليات إدارته.
فقد يبدو مفهومًا بالنسبة للمراقب وجود اختلاف بين تصورات الحزبين لمختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جهة، وتباين وجهات نظرهما حول قضايا السياسة الخارجية من جهة أخرى، فتباين وجهات النظر واختلاف آليات تنفيذ تلك التصورات هو الذي يوفر مساحة معقولة للناخب للمفاضلة بين المتنافسين، ولكن الأزمة باتت وجودية على مستوى الأسس والأصول التي يقوم عليها النظام الأميركي برمته.
فالذين صوتوا لترامب في الانتخابات الرئاسية عام 2020 بلغوا 74 مليون ناخب، يمثلون 47% من جملة أصوات الناخبين، حيث يرى أنصاره أن الانتخابات لم تكن نزيهة، وبالتالي الرئيس بايدن رئيس غير شرعي رغم أن من صوتوا له قد بلغوا 81 مليون ناخب أسهموا في وصوله للبيت الأبيض رئيسًا.
وبناء على ذلك الاعتقاد يرى أنصار ترامب أن المؤسسات القائمة غير شرعية ولا تمثلهم، وقد قاموا بالهجوم على مقر الكونغرس في السادس من يناير/كانون الثاني 2020؛ لمنع اعتماد نتيجة الانتخابات العامة.
هذا التفكير ظل يتعاظم يومًا بعد يوم في أذهان مناصري الرئيس السابق إلى هذه اللحظة، ونحن على مشارف الانتخابات العامة القادمة التي ستعقد في نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام، وهم يؤمنون بضرورة خلق مؤسسات بديلة ذات مشروعية مختلفة لتمثلهم.
ولعل أكبر خطر يهدد النظام السياسي الأميركي وقدرته على المحافظة على وحدة الدولة، هو تنامي هذا الشعور العدائي تجاه المؤسسات الفدرالية الذي دعمه ترامب بعد مغادرته البيت الأبيض في العام 2020 إلى لحظة دخوله قاعة المناظرة، ولم يسعَ بأي قدر مع أنصاره لخلق بيئة صالحة للعمل السياسي الرشيد القائم على التداول السلمي للسلطة، والاعتراف بنتائج الانتخابات.
وقد أضاف ترامب إلى ذلك إشكالية أخرى تمثلت في تشكيكه في نزاهة القضاء الذي يمثل أمامه الآن في قضايا مدنية وجنائية كبرى، ربما تقوده للسجن، وتصويره على أنه قضاء غير نزيه، وتم تسييسه لملاحقة الخصوم السياسيين. ووجدت هذه الاتهامات هوًى في نفس مناصريه، وبالتالي قابلية للدخول في حرب ضد مؤسسات الدولة بدعوى أنها لا تُمثلهم.
مشروع 2025
ثالث المعطيات هو مشروع العام 2025، الذي ظهر نتيجة عملية تقييمية عميقة قامت بها مائة منظمة يمينية محافظة ذات توجهات متطرفة للغاية، برعاية وإشراف منظمة التراث (The Heritage Foundation). خلصت هذه العملية إلى أن رئاسة دونالد ترامب السابقة لم تنجح في تغيير وجه أميركا ليصبح أكثر محافظة وتطرفًا؛ بسبب امتلاكهم السلطة دون خطةٍ واضحةٍ وأفرادٍ يتمتعون بالولاء الكافي لتنفيذها. سعى المشروع لمعالجة هذه النواقص من خلال أربعة عناصر رئيسية، هي:
- أجندة سياسية واضحة المعالم تكون بمثابة خطة.
- موظفون يتمتعون بالولاء الكافي لتنفيذ الخطة.
- وجود أكاديمية رئاسية لتدريب هؤلاء الموظفين لضمان نجاح تنفيذ الخطة.
- وجود كتاب مفصل لأجندة محددة للغاية واجبة التنفيذ خلال الـ180 يومًا الأولى من إدارة ترامب المقبلة.
تتم حماية هذا المشروع المحافظ المتطرف برافعة قضائية يقوم عليها قضاة يمينيون محافظون تشرف عليهم مؤسسة الفدراليست سوسيتي (Federalist Society) التي تضم ما لا يقل عن مائة ألف محامٍ وقانوني. ومن أبرز إنجازاتها هو أن خمسة من قضاة المحكمة العليا (The Supreme Court) قد خرجوا منها، وهم: بريت كافانو، نيل جورساتش، إيمي كوني باريت، كلارنس توماس، وصامويل أليتو. عين ترامب الثلاثة الأوائل منهم خلال رئاسته الأولى.
الملاحظة الجديرة بالاهتمام هنا هي أن هذا المشروع مهتم للغاية بتغيير بنية الدولة ومؤسساتها بالكامل، الأمر الذي سيكون له انعكاسات خطيرة على الداخل والخارج الأميركي بشكل عام وعلى منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص. تم تضمين الأفكار الكاملة لهذا المشروع في كتاب كبير الحجم يقع في 922 صفحة يحمل اسم “تفويض القيادة: وعد المحافظين” (Mandate for Leadership: The Conservative Promise).
سيناريوهات
السؤال هنا ما هي مترتبات فوز أي من المرشحَين برئاسة الولايات المتحدة على الصعيدين: الداخلي والخارجي؟ للإجابة عن هذا السؤال ثمة سيناريوهان:
السيناريو الأول:
فوز ترامب الذي يتقدم على بايدن في كل استطلاعات الرأي. في هذه الحالة، ستتاح لترامب فرصة تطبيق خطة مشروع 2025 اليميني المتطرف بالكامل. في تقديري الشخصي، إن حدث ذلك، فسيكون ترامب بمثابة غورباتشوف أميركي، والذي ستنحصر مهمته في تفكيك أوصال الحكومة الفدرالية وتهميش دورها بشكل كامل.
ستكون تلك خطوة متقدمة في اتجاه تفكيك الولايات المتحدة. التفكيك في هذه الحالة ليس بالضرورة انهيار الاتحاد الفدرالي الذي يضم خمسين ولاية، ولكن تصاعد النزعة الاستقلالية والتمرد على النظام المركزي قد يفضي مستقبلًا للتفكيك الكامل أو العودة للنظام الكونفدرالي كما كان عليه الحال في السابق.
على المستوى الخارجي، ستكون أميركا منكفئة على نفسها أكثر باستثناء جبهة الصين التي قد تشهد مزيدًا من المواجهات على الصعيد التجاري، وربما المواجهة العسكرية في مرحلة ما مع غياب شبه تام عن منطقة الشرق الأوسط.
السيناريو الثاني
فوز الرئيس بايدن. في هذه الحالة، وعلى خلفية التحدي السياسي آنف الذكر، سيواجه صعوبة كبيرة فيما يتعلق بالاعتراف بنتائج الانتخابات، وقد يقود هذا الأمر لنوع من المواجهات العنيفة التي ربما تفضي لحرب أهلية إذا لم ترتقِ النخبة الحاكمة في أجهزة الدولة الثلاثة – خاصة أعضاء الكونغرس من الجمهوريين – لمستوى المسؤولية واحترام الدستور.
في حال تم الاعتراف ببايدن كرئيس لولاية ثانية، ستكون ولايته موسومة بالصراع السياسي مع المحافظين الذين لن يألوا جهدًا في توظيف الترسانة القضائية التي بنوها في تعطيل كل مشروعات بايدن. على الصعيد الخارجي، سيكون الاهتمام منصبًا على الصين، ومحاولة حسم الحرب الأوكرانية لمصلحة المعسكر الغربي، رغم أن الانخراط الشديد في هذه الحرب ربما يحمل في طياته تهديدًا أمنيًا متعاظمًا لأوروبا في حال شعر بوتين بأي نوع من التهديد الوجودي لبلده.
الشرق الأوسط والسباق الانتخابي
ثمة معطى رابع يتمثل في المعضلة الأمنية بالنسبة لدول الشرق الأوسط. هذه المعضلة ستظل قائمة في حال فاز أي من الطرفين، فالأولوية ستكون للصين كمنافس إستراتيجي حقيقي. الناظر لميزانية الدفاع الأميركية للعام 2024 يرى جزءًا مقدرًا منها موظفًا لهذا الغرض، وبالتالي تنويع التحالفات الإستراتيجية لدول منطقة الشرق الأوسط يظل أمرًا ملحًا للغاية. دول المنطقة لديها القدرة على المناورة إذا ما استخدمت ما بيدها من إمكانات ووسائل ضغط.
في سياق آخر، على الرغم من أن الولايات المتحدة تنفق على الدفاع أكثر من أي دولة أخرى، فإن مكتب الميزانية التابع للكونغرس يتوقع أن ينخفض الإنفاق الدفاعي كحصة من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات المقبلة – من 2.9% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024 إلى 2.5% في عام 2034.
وبالتالي، التعويل على واشنطن من الناحية الأمنية يظل أمرًا غير مجدٍ في السنوات القادمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.