غير مصنف

مسرح الدمى العالمي: كيف تدير النخبة السياسية والاقتصادية العالم؟ | سياسة

|

في عالم تكنولوجي متطور، تتصدر محركات الدمى الميكانيكية المشهد كإبداع هندسي ساحر. هذه الدمى، التي تتحرك بخيوط خفية وبأوامر دقيقة، تقدم لنا تشبيهًا مثاليًا للقوى العالمية التي تدير المسرح السياسي والاقتصادي للعالم.

محركو الدمى، هؤلاء العباقرة الذين يقفون خلف الكواليس، يسحبون الخيوط ويديرون العالم بأصابعهم النحيلة. إنهم سادة العالم الحقيقيون، لا يظهرون على شاشات التلفاز ولا يتصدرون الصفحات الأولى للمجلات والمواقع الإلكترونية، لكن تأثيرهم يتغلغل في كل ركن من أركان حياتنا. نعيش في عالم تحكمه نخبة اقتصادية وسياسية واجتماعية، تلعب فيه مصالحها الخاصة دور البطولة، بينما نحن البقية، مجرد دمى في مسرحيتهم الكبرى.

دعونا نتصوّر العالم كساحة عرض ضخمة، حيث الدول هي الدمى المتحركة. في هذه المسرحية الكبرى، هناك لاعبون خلف الكواليس يتحكمون في الخيوط، يوجهون الحركة، ويصنعون الأحداث. هؤلاء اللاعبون ليسوا سوى القوى السياسية والاقتصادية الكبرى: الحكومات العظمى، الشركات العملاقة، والمنظمات المالية الدولية.

كما تتحكم أصابع محرك الدمى بحركات الدمى الميكانيكية، كذلك تتحكم هذه القوى العالمية بالسياسات الدولية. الحركات الدقيقة للدمى تعكس الأوامر غير المرئية التي تصدرها الأيدي الخفية. قادة الدول، الذين يظهرون على المسرح بمظهر الزعماء الأقوياء، هم في الحقيقة يتبعون تلك الأوامر بحركات محسوبة.

أمثلة واقعيّة

  • الأزمة المالية العالمية 2008: عندما نتحدّث عن الأزمات المالية، لا يمكننا أن ننسى أزمة 2008 التي هزّت العالم بأسره. السبب الأساسي كان إفلاس بنك “ليمان براذرز” الأميركي، ولكن تأثير الأزمة كان عميقًا وواسع الانتشار؛ بسبب تشابك الأنظمة المالية العالمية. البنوك المركزية وصندوق النقد الدولي تدخلا بقوة لإنقاذ الأنظمة الاقتصادية، مما يوضح كيف تتحكم هذه الكيانات في الاقتصاد العالمي كما يتحكم محرك الدمى بخيوطها.
  • السياسات الأميركية في الشرق الأوسط: السياسات الخارجية للولايات المتحدة في المشرق العربي، أو في منطقة غرب آسيا كما يسميها الصينيون، مثال آخر. التدخلات العسكرية والسياسية في العراق وأفغانستان وسوريا وفلسطين المحتلة، ليست فقط قرارات وطنية، بل تعكس تحركات إستراتيجية لأهداف أكبر، تشمل السيطرة على الموارد النفطية والتأثير الجيوسياسي. الشركات النفطية الكبرى مثل “إكسون موبيل” و”شيفرون” لعبت أدوارًا مهمة في تشكيل هذه السّياسات.
  • الاتحاد الأوروبي والسياسة النقدية: الاتحاد الأوروبي، بوجود البنك المركزي الأوروبي، يمثل قوّة هائلة في توجيه السياسات النقدية لدول منطقة اليورو. التحكم في سعر الفائدة وسياسات التقشف التي فرضت على دول مثل اليونان وإيطاليا بعد أزمة الديون السيادية، يظهر بوضوح كيف تتحكّم المؤسسات الكبرى في مصير الدول الصغيرة.
  • التكتلات الاقتصادية مثل G7 وG20: اجتماعات مجموعة السبع (G7) ومجموعة العشرين (G20) تُظهر كيف تتحكّم القوى الاقتصادية الكبرى في رسم السياسات العالمية. هذه الاجتماعات تحدّد الاتجاهات الاقتصادية الكبرى وتتخذ قرارات تؤثر على التجارة العالمية والتنمية المستدامة والتغيّر المناخي.

بينما نحن، الجمهور، نشاهد العرض ونتأثر بأحداثه، قد نفشل في رؤية الخيوط التي تحرك هذه الدمى. نحن نتابع القادة، ننتقدهم أو نمدحهم، دون أن ندرك أن أفعالهم محكومة بخيوط خفية. إنها لعبة معقّدة حيث تبدو القرارات، كما لو كانت نابعة من إرادة القادة، بينما في الواقع هي محكومة بمن يتحكّم في الخيوط.

كيف نرى ما وراء الستار؟

فلنتحدث عن السياسة، أو كما أحب أن أسميها: “لعبة الكراسي الموسيقية للأغنياء”. في السياسة، نحن نعتقد أننا ننتخب قادتنا ونختار مصيرنا، لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. المحركون الحقيقيون، أولئك الذين يملكون المال والنفوذ، هم من يقرّرون من سيجلس على الكرسي. انتخابات؟ نعم، إنها مجرد مسرحية، حيث تبدو الديمقراطية وكأنها حقيقية. حملات انتخابية ضخمة، ووعود براقة، ومنافسات شرسة، ولكن في النهاية، من يملك المال يملك الكلمة الأخيرة.

هذا ليس موقفًا سلبيًا من الديمقراطية، لكنه تشريح لنوع الديمقراطية السائد في الغرب الليبرالي، والذي أصبح مواطنوه يميلون إلى ضرورة البحث عن حلول لتجاوز منطقها التمثيلي، لتصبح ديمقراطية تشاركية تعبّر عن حقيقة تطلعات الرأي العام.

دعونا نتأمّل في الأمر: من يمول الحملات الانتخابية؟ من يدفع للمستشارين السياسيين؟ من يوفر الطائرات الخاصة والمناسبات الفاخرة؟ إنها الشركات الكبرى وأصحاب المليارات الذين يملكون أجنداتهم الخاصة. هؤلاء لا يلقون أوراق التصويت، بل يلقون بأموالهم في كل اتجاه؛ لأن الفائز يخدم مصالحهم. وهكذا، نستيقظ كل صباح على أخبار عن قوانين جديدة وقرارات سياسية مفاجئة، نتساءل كيف ولماذا؟ في حين أن الجواب بسيط: إنهم يعملون لصالح مموليهم وليس لصالحنا.

الجانب الاقتصادي

أما عن الاقتصاد، فتلك قصة أخرى من قصص العجائب والغرائب. المحركون الاقتصاديون هم اللاعبون الحقيقيون في هذا المسرح، يتحكمون في الأسواق، يرفعون الأسعار ويخفضونها كما يشاؤون، ويخلقون الأزمات المالية ويستغلونها لصالحهم. أسواق الأسهم؟ إنها ليست إلا كازينو كبير، حيث يراهن المحركون على الشركات والدول وكأنها أوراق لعب. البنوك والمؤسسات المالية الكبرى تتحكم في تدفقات الأموال، وتفرض شروطها على الحكومات، وتجعل العالم يدور حولها.

الاقتصاد ليس مجرد أرقام وجداول، بل هو شبكة معقدة من العلاقات والمصالح المتداخلة. الشركات الكبرى تبتلع الصغيرة، والأغنياء يزدادون غنى، بينما الفقراء يزدادون فقرًا. التضخم والبطالة والأزمات المالية هي أدوات في أيدي المحركين، يستخدمونها لتحريك القطع على لوحة الشطرنج الكبرى. وحين تقع الكارثة، يدفع المواطن العادي الثمن، بينما ينقذ المحركون أنفسهم بأموال دافعي الضرائب.

الجانب الاجتماعي

والآن نصل إلى الجانب الاجتماعي، وهو الأكثر إثارة وسخرية. المحركون الاجتماعيون هم من يقرّرون ما نراه ونسمعه ونصدقه. الإعلام، هذا الوحش الذي يتغذى على الإشاعات والأكاذيب، هو أداتهم المفضلة. يمتلكون القنوات التلفزيونية، والصحف، والمواقع الإخبارية، ويستخدمونها لتوجيه الرأي العام، وإثارة الفتن، وصرف الانتباه عن القضايا الحقيقية.

نحن نعيش في عالم من الإلهاءات، حيث تغمرنا الأخبار التافهة والمسلسلات الرديئة، في حين تمرّ الأمور الهامة دون أن يلاحظها أحد. إنهم “المتلاعبون بالعقول”، كما سماهم عالم الاجتماع الأميركي هربرت شيلر في كتاب شهير له مطلع السبعينيات من القرن الماضي.

الأفلام والمسلسلات والأغاني ليست مجرد ترفيه، بل هي أدوات لغرس الأفكار والمعتقدات في عقول الناس. من يملك الصناعة الفنية؟ من يمول الأفلام والمسلسلات الكبرى؟ إنهم نفس المحركين الذين يتحكمون في السياسة والاقتصاد. يستخدمون الفن لنشر رسائلهم، وتغيير الثقافات، وتوجيه السلوكيات الاجتماعية. وعندما يتعلق الأمر بالتعليم، فإنّ المحركين يحرصون على أن تظل المناهج الدراسية تحت سيطرتهم، ليضمنوا أن الأجيال القادمة ستظلّ خاضعة لنفوذهم.

في النهاية، نحن نعيشُ في عالم تحكمه نخبة صغيرة من المحرّكين، تتحكّم في كل جانب من جوانب حياتنا. نعتقد أننا أحرار، لكننا في الحقيقة مقيدون بخيوط غير مرئية، يحرّكنا كما يشاء هؤلاء السادة الخفيون. ومع ذلك، نواصل العيش في هذا الوهم الكبير، نتساءل أحيانًا عن سبب الفوضى وعدم العدالة، لكننا نعود سريعًا إلى حياتنا اليومية، غير مدركين أننا مجرد دمى في مسرحية حياتهم الكبرى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

الصحيفة العربية الأردنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى