ميلووكي – وسط ضجيج الحملة الرئاسية لانتخابات 2016، نشر جي دي فانس كتابا عن حياته بعد ضغط من إيمي تشوا أستاذته للقانون في جامعة ييل المرموقة. وتزامن نشر الكتاب مع الصعود الصاروخي لدونالد ترامب في غمار الحياة الأميركية مطيحا بكل القواعد والأعراف والقيود التي عرفتها الحياة السياسية الأميركية لعقود.
وجاء الكتاب “Hillbilly Elegy: A Memoir of a Family and Culture in Crisis” (مرثية البسطاء: مذكرات عائلة وثقافة في أزمة) في 274 صفحة مقسما على ثمانية فصول سرد خلاها قصة عائلته التي نشأت في ولاية كنتاكي في أحضان سلسلة جبال الأبالاتش الممتدة في سلاسل في شرق أميركا الشمالية.
وشرح فانس قصة عائلته بلا خجل أو تردد، وكيف عكست ما شهدته ولايات حزام الصدأ الأميركية في الغرب الأوسط، ونضال الطبقة العاملة الأميركية والتي أهدت ترامب الرئاسة عام 2016، ثم سهلت من فوز جو بايدن بانتخابات 2020، ويتصارع عليها المرشحان مع اقتراب انتخابات 2024.
وقد باع الكتاب 1.6 مليون نسخة، إضافة للطبعات الإلكترونية والصوتية، وفقا لشركة هاربر كولينز ناشرة الكتاب.
فانس الذي كان!
“أنا لست عضوا في مجلس الشيوخ أو حاكما لولاية أو وزيرا”، كتب جي دي فانس هذه العبارة في أول صفحات كتابه. وبالطبع كان كل هذا صحيحا في عام 2016 حين صدر الكتاب، عندما كان فانس حينها خريجا سابقا من كلية الحقوق بجامعة ييل، ولديه “وظيفة لطيفة، وزواج سعيد، ومنزل مريح وكلبين مفعمين بالحيوية”، إلا أن ذلك كله تغير بعد أن أصبح مرشحا كنائب للرئيس السابق دونالد ترامب على بطاقة الحزب الجمهوري.
ويحكي الكتاب قصة هجرتين. أحدها هو الحركة الواسعة النطاق للبيض الفقراء، ومن بينهم أجداد فانس لأمه، من ريف جبال الأبالاتش إلى مدن وبلدات ولايات حزام الصدأ. والهجرة الأخرى هي مسار فانس نفسه من مدينة ميدلتاون بولاية أوهايو، إلى مراكز الطبقة الحاكمة في جامعة ييل ووادي السيليكون بكاليفورنيا واشنطن العاصمة.
بينما يركز الكتاب في المقام الأول على قصة فانس الشخصية، فإنه يلقي الضوء أيضا على القضايا الاجتماعية الأوسع داخل المجتمع الأميركي، لا سيما فيما يتعلق بالفقر والتعليم والانقسامات الثقافية.
أحد الموضوعات الرئيسية للكتاب هو تأثير الفقر على الأفراد والمجتمعات، حيث يصف فانس التحديات التي يواجها العديد من الأميركيين من الطبقة العاملة، بما في ذلك عدم الوصول إلى التعليم الجيد، وفرص العمل المحدودة، ودورة الإدمان والعنف التي غالبا ما تضرب هذه المجتمعات.
صدمة العولمة
ولد فانس في بلدة ميدلتاون بولاية أوهايو، وكانت مدينة صناعية صغيرة تقع بين مدينتي دايتون وسينسيناتي، بعدما انتقل أجداده إليها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبدء نهضة صناعية في ولايات الشمال ومنها أوهايو حيث توفرت وظائف عدية ذات أجور مرتفعة للطبقة العاملة. وولد فانس لأم تركها زوجها مبكرا، وتزوجت 4 مرات وتعاطت المخدرات بأنواعها بعد ذلك، ويقول فانس “كان أجدادي فقراء قذرين لكنهم طيبون”.
ويصف فانس نشأته وخلفيته العائلية أثناء نشأته في ميدلتاون، وفصل لتاريخ عائلي من الفقر وإدمان المخدرات، وكيف أضطر أجداده ثم والدته، لقبول وظائف منخفضة الأجر، بعدما تم نقل الوظائف الجيدة لخارج البلاد في اتجاه الصين أو المكسيك حيث تنخفض الأجور.
وتحدث فانس عن قيم الجنوب الأميركي التي حملتها عائلته معها من ولاية كنتاكي، ومنها قيم مناطق جبال الآبالاتش والتي يميزها الولاء وحب الوطن على الرغم من القضايا الاجتماعي مثل الجنوح المتكرر للعنف والإساءة اللفظية.
ولم يتردد فانس في عرض إدمان أجداده للخمور والمخدرات، وإساءة معاملتهم لبعضهم البعض، وتاريخ والدته غير المستقر في إدمان المخدرات والعلاقات الجنسية الفاشلة. وبسبب إدمان والدته، كانت جدته هي الوصية عليه أثناء طفولته، وكانت شديدة الصرامة، ودفعته للاجتهاد تعليميا وأخلاقيا.
مصيرك بيدك
يوفر الكتاب بعض الأمل والكثير من الإلهام للقراء الذين يواجهون أوضاعا معيشية واجتماعية قاسية، ويثير فانس أسئلة جادة حول مسؤولية عائلته وأهله عن سوء أوضاعهم، ويلقي فانس باللوم على ثقافة المناطق التي نزحوا منها، واعتمادهم على المعونات والمساعدات الاجتماعية الحكومية. فقد صب فانس غضبه على أبناء هذه الطبقة “الكسالى” كما وصفهم، وذكر أنهم “متلقي المعونات الحكومية يتحدثون في أحدث الهواتف النقالة”.
وواجه فانس في كتابة عما يراه البعض من المحرمات حيث ألقى باللوم على كسل الطبقة البيضاء، وعدم إدراكها للتغيرات الجارية، وألقائهم باللوم القدر والحكومة، بدلا من كسلهم.
ومن خلال قصته نجاحه الخاصة، يوضح فانس كيف يمكن النضال من أجل التغلب على فقر الأجيال والحواجز الثقافية.
ويتعمق فانس في التطرق للعوامل الاجتماعية والاقتصادية المعقدة التي تساهم في دورة الفقر المجتمعية، ويسلط الضوء على قضايا مثل محدودية الوصول إلى التعليم وفرص العمل. كما يتأمل في رحلته الخاصة للتحرر من هذه القيود، مؤكدا على أهمية المرونة والتصميم في مواجهة الشدائد.
بالإضافة إلى ذلك، يتطرق فانس إلى مفهوم الهوية والانتماء، حيث يتصارع فانس مع جذوره في جبال الأبالاتش ووصمة العار الثقافية المرتبطة بانتمائه إليها.
واحدة من النقاط الرئيسية التي يثيرها فانس هي أهمية المسؤولية الشخصية. ويعترف بأنه في حين أن العوامل الخارجية، مثل الفقر والإدمان، يمكن أن يكون لها تأثير كبير على حياة الشخص، فإن الأفراد في نهاية المطاف لديهم القدرة على اتخاذ الخيارات وتشكيل مصائرهم.
ويناقش فانس كيف كانت قراراته الخاصة بالانضمام إلى مشاة البحرية والالتحاق بعد ذلك بالجامعة محورية في رحلته نحو النجاح، مع تسليط الضوء على أهمية تولي مسؤولية ظروف المرء والعمل من أجل مستقبل أفضل.
ويتناول فانس كذلك ثقافة الفقر التي تتغلغل في العديد من الفئات، مما يؤدي إلى دورات من الخلل الوظيفي واليأس. ويدعو إلى تحول في العقلية والاستعداد للتحرر من قيود تربية الفرد ونشاته، وينادي بالعمل الجاد والمثابرة والاستعداد للبحث عن فرص للنمو والتقدم.
فانس يراجع نفسه
وكان أحد الأسباب الرئيسية لنجاح كتاب فانس هو صدوره وتفسيره بطرق غير مباشرة وشخصية لصعود دونالد ترامب إلى قمة الحزب الجمهوري. على وجه الخصوص، وشرح الكتاب سبب انجذاب ناخبي الطبقة العاملة البيضاء إلى ترامب كزعيم سياسي.
وعلى الرغم من أنه لم يذكر ترامب في الكتاب، إلا أن فانس انتقد علنا الرئيس السابق أثناء مناقشته للكتاب في عدة مقابلات بعد صدوره.
ومع ذلك، تراجع فانس عن هذه التعليقات عندما انضم إلى سباق مجلس الشيوخ الأميركي لعام 2022 في أوهايو، ونال دعم ترامب، وبالمقابل أصبح ترامبيا بامتياز، حتى تم اختياره من قبل ترامب ليكون نائبه في بطاقة الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية للعام 2024.
الكتاب مثير ويعكس في بعض جوانبه مفهوم الحلم الأميركي والحراك المجتمعي والطبقي من جانب، ومن جانب أخر فقدان الحلم الأميركي لشريحة كبيرة من ملايين الأميركيين من أبناء الطبقات العاملة.