وسط محيط إقليمي ملتهب، يعزز الأردن علاقاته العسكرية مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) والدول الأساسية فيه، وكان أحدث المؤشرات على ذلك إعلان الحلف في قمته المنعقدة في واشنطن قبل أيام عن فتح مكتب اتصال له في العاصمة عمّان، وهو ما يعد امتدادا لمسيرة 30 عاما من التنسيق بين الطرفين.
وبالتزامن، تزيد الولايات المتحدة دعمها الاقتصادي والعسكري للأردن، والذي من المقرر أن يبلغ 2.1 مليار دولار في العام 2025.
وفي المقابل، تشهد العلاقات الأردنية توترا مع إيران، ولا تظهر بوادر إيجابية بخصوص العلاقة مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بما يشير إلى استمرار التوجه الرسمي الأردني في التحالف السياسي والعسكري مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، مع ما يتسبب به ذلك من تقييد لخياراته السياسية بشأن القضية الفلسطينية، وما يشكله الغطاء الأميركي للجرائم الإسرائيلية في غزة والضفة والقدس من تهديد جوهري للمصالح الحيوية للمملكة.
وهذا ما يفسر -بحسب مراقبين- ضعف ردود الفعل الإسرائيلية والغربية على التصريحات الأردنية عالية السقف بشأن الجرائم الإسرائيلية، إذ تدرك هذه الدول أن المسار العسكري والسياسي والاقتصادي للأردن يتجه نحو مزيد من التحالف والاعتماد على الناتو والدول الغربية، وهو ما يجعل إمكانات الفعل المعيق للسياسات الإسرائيلية هامشيا.
ويستعرض هذا التقرير سياق تمدد الناتو في الشرق الأوسط، وطبيعة البرامج المشتركة مع الأردن، إضافة إلى تطور العلاقة العسكرية مع الدولة الأساسية في الحلف وهي الولايات المتحدة، وأثر ذلك أمنيا وسياسيا على المملكة.
تمدد الناتو جنوبا
يشكل الناتو مظلة حماية أمنية لقرابة مليار إنسان في 32 دولة في الوقت الحالي. وفي حين كان مبرر تأسيسه هو مواجهة التحدي السوفياتي، إلا أن الولايات المتحدة حافظت على الحلف عقب انهيار الاتحاد في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بل قامت بتوسيع عضويته وتطوير مهامه، في مسعى لتولي “الإدارة الأمنية للعالم”، ضمن “النظام العالمي الجديد”، وبما ينافس ويتجاوز دور مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة.
وفي هذا السياق، أنشأ الحلف إطار “الحوار المتوسطي” عام 1994، والذي ضم إسرائيل ومصر والمغرب وتونس وموريتانيا، ثم التحقت به الأردن عام 1995، والجزائر عام 2000.
وشملت الأنشطة المشتركة للناتو، وهذه الدول مجالات التعاون الثنائي العسكري، ومكافحة الإرهاب والتهديدات الأمنية الجديدة من خلال تقاسم المعلومات الاستخبارية بشكل فعال، والتشاور بشأن أمن الحدود، وتخطيط الطوارئ المدنية، وتشجيع “الإصلاح الدفاعي”.
وضمن أنشطة هذا الإطار شاركت قوات من مصر والأردن والمغرب في عمليات حفظ السلام بقيادة الناتو في البوسنة والهرسك وكوسوفو وأفغانستان.
تطور التعاون بين الأردن والناتو
اعتمد الحلفاء في قمة حلف شمال الأطلسي لعام 2024 في واشنطن إنشاء أول مكتب اتصال له في المنطقة، في العاصمة الأردنية عمّان، ووفقا للبيان الصادر عن الطرفين، فإن المكتب سيعمل بصفته مكتبا تمثيليا، على تقريب وجهات النظر بين الحلف والمملكة من خلال تعزيز الحوار السياسي والتعاون العملي في المجالات ذات الاهتمام المشترك.
كما وسيمكن المكتب من التواصل المنتظم بين الطرفين، وبالتالي المساهمة في التوصل إلى فهم أفضل للسياق الوطني والإقليمي وتطوير وتنفيذ برامج وأنشطة مشتركة، بما في ذلك على سبيل المثال المؤتمرات والدورات وبرامج التدريب في مجالات مثل التحليل الإستراتيجي وإدارة الأزمات، والأمن السيبراني، وتغير المناخ.
ووفقا للموقع الإلكتروني للناتو، فقد تم الاتفاق على الحزمة الأولية لمعالجة الاحتياجات الأمنية المتطورة للأردن، من هيئة تنسيق التعاون الدفاعي في قمة ويلز عام 2014 وتمت مراجعتها في عامي 2017 و2021، إذ تتضمن الحزمة حاليا مبادرات أمن الحدود، وبناء النزاهة، والاستعداد المدني وإدارة الأزمات، ومكافحة العبوات الناسفة، والدفاع السيبراني، وتطوير قدرات اللغة الإنجليزية، وحماية المعلومات والأمن، وأنظمة الخدمات اللوجيستية، والتدريبات العسكرية، وإدارة الأفراد، وقوات العمليات الخاصة.
ووافق الحلف أيضا على “تعزيز البعد المتعلق بمكافحة الإرهاب في حزمة التعاون الدفاعي من خلال إدراج المجالات التالية: التدريب والتعليم على المستوى الإستراتيجي لمكافحة الإرهاب، والأسلحة الصغيرة والخفيفة، والاتصالات الإستراتيجية، وإساءة استخدام الإرهابيين للإنترنت”.
كما أشار إعلان لوزارة الدفاع الأميركية في الخامس من يوليو/تموز 2021 إلى أن أعمال بعثة الناتو في الأردن تتضمن المساعدة في تنفيذ العقيدة والسياسة الجديدة المنصوص عليها في وثائق الحلف لصالح القوات المسلحة الأردنية لدعم جهود القوات لتلبية معايير الناتو.
ويضاف إلى ذلك تقديم المشورة بشأن السياسات والوظائف والمهام، وهيكل القوات المسلحة الأردنية بهدف التطوير الكامل للتعاون مع دول الحلف.
عدم شمول الأردن بمظلة الحماية
تشكل الحماية المتبادلة أهم منافع الحلف، خصوصا في ظل الخطر المتزايد للحروب، وامتلاك عدد متزايد من الدول لأسلحة الدمار الشامل.
وينص بيان قمة واشنطن الصادر في 11 يوليو/تموز 2024 على أن “الردع النووي هو حجر الزاوية لأمن التحالف، وطالما أن الأسلحة النووية موجودة، سيبقى الناتو تحالفا نوويا، ويظل ملتزما باتخاذ جميع الخطوات اللازمة لضمان مصداقية وفعالية وسلامة وأمن مهمة الردع الخاصة به، منها تحديث قدراته النووية والتكيف حسب الضرورة”.
ولكن مبادرة “الحوار المتوسطي” ومشروع “الشراكة لتعزيز القدرات” الذي ينفذه الناتو مع الأردن والعراق والبوسنة والهرسك وغيرها من الدول، لا ينص على أي التزام من الحلف بالدفاع عن أي من الدول الشريكة له في هذه الأطر.
مما يجعل مستوى المخاطرة مرتفعا لهذه الدول في حال تعاونت مع الحلف في أي مواجهة عسكرية له مع دولة مثل إيران التي تعد قريبة من امتلاك السلاح النووي، علاوة على امتلاكها قدرات صاروخية فاعلة.
النفوذ العسكري الأميركي في الأردن
وفي حين وقع الأردن في عام 2021 معاهدة تسمح للقوات الأميركية بحرية الحركة والعمل على أراضيه وتعطيها حصانة شبيهة بالحصانة الدبلوماسية، فإن هذه الاتفاقية -وفقا لنصها المعلن من قبل وزارة الخارجية الأميركية- لا تتضمن أي التزام من الولايات المتحدة بالدفاع عن المملكة في مواجهة أي هجمات أو تبعات تنتج عن نشاطها العسكري على أراضيه.
كما لا تحوي الاتفاقية، التي تسمح للقوات الأميركية باستخدام 12 قاعدة عسكرية أردنية، أي شروط على طبيعة النشاط العسكري محليا أو إقليميا لهذه القوات، وهو ما تسبب بحرج بالغ لعمان حينما أسفرت المواجهة بين القوات الأميركية والفصائل الموالية لإيران عن مقتل 3 عسكريين أميركيين في هجوم على قاعدة لهم داخل الأراضي الأردنية.
من شأن هذا الوضع القانوني إنشاء سيادة باتجاه واحد، أي أن ليس للأردن سيادة على أي أعمال هجومية تقوم بها القوات الأميركية انطلاقا من أراضيه، وبالمقابل حينما يحصل رد على هذه الأعمال يستهدف القوات الأميركية انطلاقا من العراق أو سوريا فالأردن يرفض ذلك ويعده انتهاكا لسيادته.
ويشير أستاذ السياسة الأميركي كيرتس ريان إلى أن “الوجود العسكري الأميركي يشكل سلاحا ذا حدين، فهو يهدف إلى دعم حدود المملكة وسلامة أراضيها وأمن الدولة، ولكن عدم شعبية هذا الوجود العسكري يهدد بتقويض الأمن الداخلي للنظام الأردني وشرعيته، وربما يكون هناك فجوة متزايدة بين النظام والمجتمع بشأن هذه القضية”.
ويضيف في مقال نشره المركز العربي في واشنطن أن “اتفاقية التعاون الدفاعي بين البلدين أصبحت قانونا بموجب مرسوم ملكي، متجاوزة البرلمان ومولدة ردود فعل شعبية كبيرة. إذ ندد أعضاء المعارضة بالاتفاقية باعتبارها انتهاكا للسيادة الأردنية وإذلالا وطنيا.
كما أنه في حين لم تغير ردود الفعل بأي حال من الأحوال الاتفاقية، أو العلاقات الأميركية الأردنية في هذا الشأن، فإن النبرة الساخطة كانت نذيرا للأشياء القادمة، حيث تزايدت المعارضة المحلية للوجود العسكري الأميركي منذ ذلك الحين. ومع دعم الولايات المتحدة للقصف الإسرائيلي لغزة، أصبحت هذه المعارضة “أعلى صوتا”.
وعلى الرغم من ذلك، فلا يبدو أن النظام بصدد مراجعة طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة، بفعل تزايد اعتماده العسكري والاقتصادي عليها، وهي بدورها تزيد دعمها له، في ظل تصاعد التوتر الإقليمي، إذ وقعت على اتفاقية للدعم للأعوام 2023-2029 بمقدار 1.75 مليار دولار سنويا، فيما يتوقع أن تقدم 2.1 مليار دولار من المساعدات في عام 2025، وفقا لبيانات مركز معلومات الكونغرس الأميركي المحدثة في الأول من يوليو/تموز 2024.
التأثير على المسار السياسي والأمني للأردن
يتضمن التقارب مع الناتو التقارب مع الدول الشريكة في الحوار المتوسطي، وفي مقدمتها إسرائيل، إذ إن الحوار السياسي والتعاون العملي يتخذ نمطا جماعيا في هذا الإطار.
ويدفع هذا التعاون، جنبا إلى جنب مع المسار الثنائي للعلاقات الأردنية-الأميركية إلى تعزيز اتجاه “التحالف غربا”، وتكريس الاحتراس والتوجس شرقا؛ باعتبار إيران وحلفائها محور المخاوف الغربية في الشرق الأوسط.
ويأتي هذا التقارب في الوقت الذي تتصاعد فيه الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، وتتقوض فيه احتمالات التسوية السلمية، وتدفع فيه السياسات الإسرائيلية إلى تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية، مما يثير غضب ومخاوف عموم مكونات المجتمع الأردني، ويضعف شرعية التمركز في مربع التحالف مع الدول الراعية لدولة الاحتلال.
وفي مواجهة هذا الواقع تسعى السلطات الأردنية إلى امتصاص الغضب الشعبي، وتهدئته بمبادرات تكتيكية، دون الخروج من المسار المرغوب أميركيا، مع العمل على توجيه الرأي العام داخليا، والسيطرة على تدفق المعلومات من خلال تفعيل قانون الجرائم الإلكترونية الذي عدله البرلمان في أغسطس/آب 2023، وفقا لما رصده التقرير السنوي لمنظمة هيومن رايتس ووتش، مع الاستمرار في ذات المسار السياسي والعسكري، رغم ما فيه من مخاطرة وتحديات جوهرية.