فتح الإعلان عن وقف إطلاق النار مع نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 بابا واسعا لتغييرات عديدة شهدتها أقطار العالم كله، بين تراجع إمبراطوريات لا تغيب عنها الشمس وطموح دول عانت من الاستعمار وتأمل تحقيق حريتها واستقلالها.
ومع انحسار مظلة الاستعمار عن الدول المستقلة حديثا منذ بداية العقد الثالث من القرن الماضي، ظهرت إشكاليات التبعية السياسية ومعضلات الديون التي تستحقها الدولة الناشئة بعد سيطرة الاستعمار على خزائنها ومواردها الاقتصادية وتراثها وأرشيفها لفترة من الزمن.
وحتى يومنا هذا ما زالت وسائل الإعلام تخرج بتصريحات مختلفة تطالب هذه الدول المستعمِرة برد الأموال التي استولت عليها من الدول التي استعمرتها في شكل ديون مباشرة، أو التحفظ على عملات ذهبية، أو استقطاع جزء من أراضيها، أو حتى سرقة آثارها وتراثها التاريخي.
وتكرر الأمر مع تصريحات عن ديون بريطانيا للدولة الفلسطينية منذ نهاية الانتداب فجأة في 14 مايو/أيار 1948، أو ديون بريطانيا للخزينة المصرية التي جاءت في صورة تمويلات وخدمات عسكرية أثناء الحرب العالمية الأولى، أو نقل فرنسا قطعا ذهبية من الجزائر، ويتكرر المشهد نفسه في العديد من الدول الأفريقية التي قبعت تحت الاحتلال فترة من تاريخها.
فلسطين نموذجا
ويعد الكشف عن الديون الفلسطينية المستحقة عند بريطانيا مرتبطا بمآلات الفترة التاريخية التي تزامنت مع النكبة الفلسطينية وقرار التقسم الذي صاحب قيام الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة، ثم عدم تسليم بريطانيا الأموال الفلسطينية التي كانت مودعة في بنك إنجلترا.
ويرجع المستشار وخبير القانون الدولي محمد الصبيحي السبب وراء عدم اعتراف بريطانيا بالدولية الفلسطينية حتى الآن إلى الخوف من مطالبتها بسداد قيمة الأرصدة الفلسطينية التي كانت مودعة في بنك إنجلترا خلال تلك الفترة التاريخية.
وأضاف الصبيحي -في مقابلة مع الجزيرة نت- أن “هذه الأموال تعادل ما بين 130 و138 مليون جنيه من الذهب”، وهذه المبالغ بسعر اليوم قيمته تتجاوز 70 مليار دولار، وهذا بخلاف القيمة التراكمية عبر كل السنين الماضية.
وعن المستندات التي يمكن الرجوع إليها لإثبات هذه المبالغ، بيّن خبير القانون الدولي أن فلسطين كان لديها بنك مركزي متكامل ومعترف به دوليا، والعملة التي يصدرها كانت مغطاة بالجنيه الذهب وتودع في بنك إنجلترا، والتقارير الدورية الصادرة عن البنك تكشف عن هذه الأرصدة وتثبت وجودها، ومن حق أي جهة رسمية تمثل الشعب الفلسطيني الحصول على هذه الوثائق.
نصوص القانون الدولي
النظرة الأولية لتاريخ الاستعمار حول العالم تكشف عن أسباب عدة شكلت سياسة الدول التوسعية، لكن الجانب الاقتصادي كان الدافع الأساسي وراء ظاهرة المستعمرات التي تستحوذ فيها الدول المستعمِرة على الموارد والعائدات التي تتمتع به الدول الخاضعة لسيطرتها.
ولذلك يقول أستاذ القانون الدولي في الجامعة العربية الأميركية رائد أبو بدوية إن “القانون الدولي دوّن في اتفاقية واضحة عام 1983 أنه على الدول التي استقلت حديثا أن تأخذ كافة ممتلكاتها المنقولة وغير المنقولة الموجودة بعد الاستقلال حتى لو كانت خارج الإقليم المستعمر”.
وأضاف أبو بدوية -في مقابلة مع الجزيرة نت- أن القانون الدولي يضمن مبدأ خلافة الدول سواء في المعاهدات الدولية أو الممتلكات والحقوق والديون، وهناك نص واضح في المادة 15 من الاتفاقية الدولية لخلافة الدول المتعلقة بالممتلكات يقول إن الدولة السلف والمستقلة حديثا تعود إليها كافة ملكية العقارات وغيرها والأموال والممتلكات غير المنقولة التي كانت تسيطر عليها الدولة المستعمرة.
القانون في الميزان
وإذا كانت القوانين الدولية متوافرة، وتضمن الحقوق كافة للدول التي نهبت أموالها خلال فترة الاستعمار، فهل وجود هذه النصوص كفيل بعودة الديون والحقوق إلى أصحابها؟
للرد على هذا التساؤل قال أستاذ العلاقات الدولية في جامعة محمد الخامس بالرباط تاج الدين الحسيني إن “نصوص القانون الدولي ليست قواعد تُفرض على الأفراد والمجتمعات”، وهذه القوانين تبقى ساكتة أمام وضعية الديون”.
وفي مقابلة مع الجزيرة نت، أشار الحسيني إلى أن الاتفاقيات المتعلقة بحقوق الدول المستقلة حديثا تمت صياغتها بروح من هيمنة الدول المسيطرة والتوافق فيما بينها على ضمان تبعية الدول التي كانت خاضعة لنفوذها.
وتأسف أستاذ العلاقات الدولية على أن قواعد التحكيم في مثل هذه القضايا تقوم أولا على مبدأ التراضي وتوافق الأطراف المتنازعة؛ و”بالتالي ما دام البلد النامي هو الطرف المدعي فسوف يبقى مسلوب الإرادة وغير قادر على إثبات وجوده القوي والسليم على المستوى الدولي، كما هو شأن البلدان المتقدمة التي لها خبرة طويلة في ميدان التحكيم الدولي وفي ميدان الممارسات داخل المنتديات القضائية الدولية”.
وسائل الضغط
وفي ما يتعلق بالخطوات التي يمكن أن تسلكها الدول من أجل الحصول على ديونها لدى دول أخرى، حدد الحسيني خطوات محددة مرتبطة بالنزاعات القضائية، حسب المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة، ومنها:
- الطرق الدبلوماسية بين طرفي النزاع.
- الوساطة من خلال تدخل طرف ثالث، ويكون غالبا قوة عظمى حليفة حتى تمارس نوعا من الضغط وتقريب وجهات النظر.
- ممارسة نوع من الضغوط السياسية والاقتصادية، وفي أحيان أخرى يكون الضغط في شكل ثقافي أو اجتماعي أو سياحي.
- التحكيم الدولي والمحاكم الدولية المختصة في فض المنازعات.
من يسترد أموال فلسطين؟
ويبدي الصبيحي اندهاشه من عدم مطالبة السلطة الفلسطينية بالأموال التي تدين بها بريطانيا للدولة الفلسطينية، فهي لديها الحق القانوني في المطالبة بهذه الأموال، فمعظم دول العالم تعترف بها ممثلا للشعب الفلسطيني.
ويتساءل: “إذا لم تعترف بريطانيا والاتحاد الأوروبي بأن السلطة ممثل للشعب الفلسطيني فلماذا يتعاملون معها؟ ولماذا وقعوا اتفاق أوسلو”؟ ولماذا يتفاوضون معها ويلتقون الرئيس محمود عباس، أليس لأنه ممثل للشعب الفلسطيني؟ ولماذا لا يطالب عباس نفسه بهذه الأموال؟
وفي خطوة أبعد من ذلك، يستمر المحامي والخبير القانوني في القول إن القانون الدولي يكفل لغزة المطالبة بالديون المستحقة للدولة الفلسطينية عند بريطانيا، فمهما كانت الحكومة القائمة فيها يمكنها استرداد هذه الأموال بوصف قطاع غزة المكان الوحيد المحرر والمستقل عن الاحتلال الإسرائيلي.
ذمة مالية منفصلة
ولما كانت حركة التاريخ لا تتوقف وكذلك أنظمة الحكم والأنماط السياسية في الدولة الواحدة، فإن القانون الدولي يفرق بين المسائل السياسية المتغيرة وممتلكات الدول الثابتة التي لا تتغير ولا يجوز نقلها.
وهذا ما فصّله الدكتور أبو بدوية بأن السلطة الفلسطينية هي سلطة حكم ذاتي ولها موازنتها الخاصة وتتوفر لديها ذمة مالية مستقلة، وبالتالي يمكنها أن تطالب بريطانيا بجميع ما احتفظت به من ممتلكات للشعب الفلسطيني منذ أيام الانتداب، بما في ذلك الأرشيف والسجلات.
ويضيف أستاذ القانون الدولي في الجامعة العربية الأميركية أن اعتراف بريطانيا بالدولة الفلسطينية لا يترتب عليه أثر قانوني لأنه أمر سياسي غير مرتبط بالحقوق والممتلكات؛ وبالتالي ما زال من حق السلطة الفلسطينية المطالبة بممتلكات الشعب الفلسطيني حتى وإن لم تعترف بها بريطانيا كدولة.