الرباط – يأخذ الرحالة ابن بطوطة المريني والمؤرخ بومبونيوس ميلا الروماني جمهور الرباط في سفر تاريخي داخل موقع شالة الأثري الذي يعود بناؤه إلى القرن السادس الميلادي.
يتعرف الجمهور في هذه الرحلة التي تمتد ساعة من الزمن من خلال مشاهد تمثيلية على الحضارات التي عبرت من هذا الموقع والشخصيات التي تركت أثرا وبصمة في التاريخ المغربي، ويقترب من الحياة الاجتماعية والسياسية للمنطقة.
وتزينت ليالي الرباط بإطلاق النسخة الثانية من عروض “نوستالجيا.. عاطفة الأمس” وهي عروض فنية داخل مرافق موقع شالة الأثري تستعيد الماضي بشخصياته وأحداثه من خلال مشاهد فنية حية تجعل الجمهور يغوص في مشاعر الأمس ويلتحم مع أحداثه.
وتقوم فكرة عروض “نوستالجيا-عاطفة الأمس” على رد الاعتبار للمواقع التاريخية في المغرب، وإلى تعريف المواطنين والزوار الأجانب بتاريخها والحضارات المختلفة التي مرت منها.
وليست الرباط وحدها التي احتضنت هذه العروض، بل كانت مواقع أثرية أخرى على موعد مع رحلات تاريخية مماثلة مثل قصر البديع وقصر الباهية بمراكش والقصبة الأثرية بشفشاون ومغارة هرقل بطنجة، ويرتقب أن تشهد مدن تاريخية لحظات الحنين والعاطفة نفسها.
شخصيات وأحداث
تبدأ الحكاية بوصول الرحالة الشهير ابن بطوطة إلى مدخل شالة ضمن موكب السلطان المريني أبو عنان ليدفن والده السلطان أبو الحسن في المقبرة المرينية في هذا الموقع التاريخي في القرن الـ14.
يلتقي ابن بطوطة بالمؤرخ الروماني بومبونيوس ميلا، ليبدآ معا سرد حكاية موقع شالة التاريخي وما مرت به من أحداث عبر شخصيات وأماكن تعود لحقب تاريخية مختلفة.
وتعرف الجمهور من خلال مشاهد تمثيلية حية على صراع الجغرافيا بين يوبا الأول ويوليوس قيصر، واتحاد يوبا الثاني وكليوباترا سيليني الثانية، ونمط العيش لدى الرومان والأمازيغ من خلال اللباس والطعام والأنشطة التجارية والثقافية والأساليب القتالية، ثم انتقل إلى العصر الإسلامي حيث جسدت العروض النهضة العمرانية والثقافية والتعليمية في عصر المرينيين من خلال الأنماط الموسيقية واللباس والتعليم وإدارة الدولة، وصولا إلى عصر السلطان العلوي المولى إسماعيل الذي شهد المغرب الاستقرار والازدهار في عهده.
يقول المخرج أمين ناسور إن هذه العروض هي مشروع فني وتاريخي وتراثي يهدف إلى تعريف المواطن المغربي والسائح الأجنبي بتاريخ وحضارة المملكة المغربية عبر مجموعة من المآثر التاريخية في المدن الكبرى.
وأضاف في حديث للجزيرة نت أن هذا المشروع الذي أطلقته وزارة الشباب والثقافة والتواصل ويشرف عليه فريق فني وتقني كبير يضم حوالي 300 شخص، يسعى لتنشيط السياحة في جهة الرباط وربط حاضر المغاربة بماضيهم لجعلهم يتطلعون للمستقبل بثقة أكبر.
السلطان وابن الخطيب
يؤدي الفنان المغربي الشاب أمين غوادة دور السلطان عبد العزيز أبي فارس المريني الذي حكم المغرب في الفترة ما بين 1366 و1372.
يستقبل السلطان الأديب والوزير الأندلسي لسان الدين بن الخطيب، ويؤكد قرار حمايته ورفض طلب سلطان بني الأحمر تسليمه له، وقدم له ابن الخطيب كتابه “معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار”.
ويعتبر بنو مرين من الدول التي حكمت المغرب الأقصى في القرن الـ14، وخلفوا نهضة عمرانية وثقافية وتعليمية ما زالت ماثلة عبر العديد من المدارس والمساجد والمآثر، وفي شالة ما زالت المقبرة المرينية تضم رفات أمراء هذه السلالة إلى جانب شهداء معركة طريف التي وقعت سنة 1340 بين جيوش المسلمين الأندلسيين والمرينيين وجيوش مملكة قشتالة والبرتغال.
أما ابن الخطيب فقد قضى في شالة خلوته خلال فترة لجوئه إلى المغرب هربا من المؤامرات في قصر الحمراء ووصفها بأنها “مرعى الذمم ونتيجة الهمم، ومشمخ الأنوف ذوات الشمم، وعنوان بر الدّيم، حيث الحسنات المكتتبة، والأوقاف المرتبة، والقباب كالأزهار مجودة بذكر الله أناء الليل وأطراف النهار، وطلل حسان المثل في الاشتهار”.
يقول الممثل أمين غوادة للجزيرة نت إنه قرأ عددا من المصادر التاريخية للتعرف على السلطان عبد العزيز والحقبة الزمنية التي عاشها وذلك ضمن استعداداته لتجسيد هذه الشخصية.
وأضاف “ساعدتني الملابس والإكسسوارات والفضاء التاريخي الحقيقي الذي نقدم فيه العرض على الانغماس في الشخصية وتقمصها وإيجاد مفاتيحها وخصائصها الجسدية في الجلوس والوقوف والنظر والحركة والكلام والصمت”.
حضور مهم
عرفت هذه العروض إقبالا مهما وتفاعلا على مواقع التواصل الاجتماعي، وأغلق الحجز منذ اليوم الأول في حين اصطف جمهور العاصمة أمام قلعة شالة انتظارا لبدء العرض.
ورغم المسافة الطويلة التي يقطعها المتلقي مشيا على الأقدام متنقلا بين المشاهد الموزعة على مختلف مرافق شالة الرومانية والإسلامية، فإن ذلك لم يوقف رغبتهم في استكمال الرحلة.
هيام كبوري ومنال الحسيني شابتان في العشرينيات من عمرهما، كان الحماس يغمرهما وهما تتنقلان من فضاء لآخر عبر حقب تاريخية مختلفة.
تقول هيام للجزيرة نت إن العرض جعلها تتعرف عن قرب على الحضارات والثقافات الكثيرة التي مرت بالمغرب وبالخصوص بموقع شالة. وتضيف ” كان أداء الممثلين رائعا، سأتذكر هذا العرض دائما”.
أما منال فلا تخفي في حديثها للجزيرة نت أنها اعتادت منذ طفولتها وصباها على زيارة شالة للتنزه رفقة العائلة والأصدقاء كونها من سكان العاصمة، غير أنها رأتها من خلال “نوستالجيا عاطفة الأمس” من منظور مختلف.
تقول “مشاهدة العروض الفنية وهي تجسد أمام عيني مباشرة جعلني أحس بأنني جزء من تلك الفترات التاريخية، لقد كان الأمر بمثابة سفر في الزمن تعرفت فيه عن قرب على الواقع الاجتماعي لتلك المراحل من خلال الشخصيات والملابس والكلام والمعلومات التي ستبقى راسخة في الذاكرة”، وتضيف “إنها فعلا تجربة لا تنسى”.
وأمام الإقبال الكبير لجمهور العاصمة، يقول المخرج أمين ناسور إنه سيتم التنسيق مع وزارة الثقافة وولاية الرباط لتمديد العروض لمدة أخرى حتى يتمكن جمهور أكبر من الحضور والاستمتاع بها.
مسرح المواقع الأثرية
في “نوستالجيا عاطفة الأمس”، كانت الساحة العمومية (الفوروم) والمعبد الرئيسي (الكابيتول) في شالة ويعود بناؤهما إلى العصر الروماني، والمدرسة والأسوار المرينية من القرن الـ14 هي المسرح الذي أدى فيه فنانون شباب مشاهدهم التمثيلية.
ويعتبر مسرح المواقع الأثرية نمطا فنيا حديثا في المغرب، غير أنه شهد منذ العام الماضي نهضة مهمة بإطلاق النسخة الأولى من العروض الفنية التاريخية في موقع شالة قبل أن يشمل مدنا أخرى.
يقول أمين ناسور إن المواقع الأثرية احتضنت في الماضي عروضا محتشمة لمخرجين وفرق فنية مغربية وأنشطة ثقافية للبعثات الأجنبية بالمغرب، لكنها كانت تجارب محدودة جدا في الزمن والمضمون والإمكانيات.
يقول ناسور “العروض التي تحتضنها المواقع التاريخية منذ العام الماضي تقدم بطريقة احترافية، نشتغل في هذا المشروع على مادة تاريخية غنية ومهمة وبفريق فني وتقني متنوع وكبير وبإمكانيات ضخمة وبدعم مهم من وزارة الثقافة، الأمر الذي جعل المواقع التاريخية تجذب الجمهور وأنعش الحياة الثقافية في المدينة”.
بالنسبة للفنان أمين غوادة، فإن مسرح المواقع التاريخية “هو عمل فرجوي وتوعوي وتثقيفي”، ويقول إن هذه التجارب غنية في أوروبا والولايات المتحدة رغم أن تاريخ هذه الأخيرة فتي.
ويضيف “مواقعنا الأثرية تمتد لمئات السنين وعلينا الاهتمام بجذب الجمهور إليها”. ويتابع “جميل أن يفخر المرء بهويته وانتمائه لكن عندما يُغْني ذلك بمعرفة ماضيه وتاريخه والوعي به، لا يكون آنذاك فخرا مجردا بل يكون أعمق وأنضج”.
ووفق رأيه “عندما يأتي الناس للمواقع الأثرية ويقتربون من الشخصيات التي عاشت في تلك الحقبة الزمنية من خلال عروض فنية حية، فإن ذلك يكون له تأثير أكبر على المتلقي، ويدفعه لمزيد من البحث عن تلك الشخصيات والمواقع والحقب”.