[ad_1]
من جملة ما فقدناه في خضم الحياة المعاصرة، مهنة الخطاط، وهو فن رفيع يتأتى بالموهبة، ويقتصر التفوق فيه على عدد محدود في كل قطر عربي، وكان المارة جميعا يستمتعون بجماليات اللافتات التي كان الخطاطون المعروفون يزينون بها الشوارع ومداخل المحلات، كان الخط يدويا يتبارى من خلاله الخطاطون ويتنافسون في إظهار إبداعات وجماليات الخطوط العربية.
انتهى كل ذلك وللأسف، فقد حلت الحواسيب والطابعات الرقمية مكانها، فباتت اللافتات مليئة بالألوان والصور، فيما لا تشغل الخطوط العربية الجميلة سوى مساحات مالئة بين الصور.
لكن الأنكى من ذلك كله حينما تجد الحروف اللاتينية قد حلت مكان العربية، وقد يكون المسمى كله غير عربي، أو أن شعار المؤسسة أو الشركة يتكون من حروف إنجليزية!.
هنالك قول لـ “بيكاسو”، قد لا يعرفه أغلب الناس، لأن التعصب الغربي يعتم عليه، فهو يقول: “لو أنني عرفت أن هنالك شيء مثل الخط العربي الإسلامي لما بدأت الرسم كله أبدا، لقد ناضلت للوصول الى أعلى مستويات الإتقان الفني، لكنني وجدت أن الخط الإسلامي كان هناك قبل ثلاثة عصور”.
في أي معلم إسلامي، ما يميزه هو الكتابات الجميلة والتي تشكل وحدات زخرفية، تتعانق مع تشكيلات من الطبيعة مشتقة من الزهور والأوراق، فتنتج من تكراراتها أرضية باهرة الجمال، يطلق عليها في عالم الفن: الأرابيسك.
هذا النوع من الفن الذي يجتمع فيه جمال معنى العبارة بجمال شكلها ينفرد به الفن الإسلامي، انبهر “بيكاسو” بجمال الشكل..فكيف لو عرف المضمون الغني بالحكمة!؟.
الخط العربي لمن يتقنه يعلم أنه رسم، وكل حركة في أي حرف هي منحنيات ترسم بدقة، بينما كل الحروف الللاتينية التي هي أصل معظم اللغات الأوروبية هي مستقيمات متعامدة أو متوازية.
ما يميز اللغة العربية هو التكامل بين مختلف العناصر التي يتألف منها المعنى والمبنى:
قوة المعنى يحققها عنصران: الأول: عمق الدلالات بتعدد الألفاظ التي تعطي درجات متعددة دقيقة التباين، والثاني بلاغة الوصف فتعطي معنى واسعا بألفاظ قليلة.
وإذا أكمل ذلك جمال المبنى الذي تحقق الصور التي ترسمها الحروف فتصبح العربية ممتعة فوق أنها مُغنِية.
أما عندما يخرج كل ذلك بخط جميل فيمكن عندها القول أنها بلغت القمة واستحقت التفوق على كل ما عداها.
هنالك ابداع في ابتكار الخطوط العربية، مما أنتج أكثر من 120 نوعا، وهي أكثر من مجموع خطوط اللغات الحية مجتمعة، لكن أشهرها هو: الكوفي والريحاني والجلي والثلث والنسخ والفارسي والديواني والرقعة والإجازة والطغراء والمشق والمكي والمدني.
قد لا يستطيع الجميع تطويع الكلمة وتنسيق العبارات حسب المراد، وقد لا يمكن إلا لقليلين كتابة الخط الجميل، فهذه ملكات فردية مثلها مثل أية مهارة أخرى، لكن الجميع يمكنه تذوق الجمال في الشكل والمضمون.
المنبهرون بحضارة الغرب من بني جلدتنا، كثيرا ما يغمزون من طرف من يبحث عن اعترافات مثقفين غربيين بتفوق ما لدينا، فيقول أحدهم: ما بالكم لا تفتؤون تتغنون بالماضي وأمجاده الدارسة، وتعيشون حاضرا لا تجيدون فيه شيئا يميّزكم، أليس الأفضل أن تنسوا ما كان وتلتحقوا بركب الأمم المتقدمة؟.
قد يكون في كلامهم بعض المنطق لو كان البحث عن النقاط المضيئة في تاريخنا بهدف القعود والبكاء على الأطلال، لكن ما نسعى إليه هو شد الهمم المتراخية وتثبيت العزائم التي أثبطها طول زمن الهزائم.
كل الأمم التي نهضت واستعادت عافيتها، كان المصلحون فيها متفائلون، يبحثون عن امجاد وإنجازات تستثير الهمم فتحيي الأمل في نفوس القاعدين لينهضوا، ويبنوا على أمجاد السلف.
فهذا “بسمارك” ما استطاع أن يجمع شتات الألمان بغير تذكيرهم بمواقعهم المجيدة بين الأمم الأوروبية، وذاك “غاريبالدي” ما استطاع أن يوحد المقاطعات الإيطالية من غير أن يعيدهم الى صفحات تاريخ الرومان بماضيهم وحضارتهم.
أمتنا تمتلك الكثير مما تعتز به، بل أكثر كثيرا من غيرها من الأمم، فهل من يشكك في تاريخنا ويعتبره سلسلة من المآسي والاخفاقات، ويبخس قيمة تلك الانجازات الحضارية التي اعترف بها حتى الأعداء .. هل هو ساع حقا لتقدم الأمة ونهضتها كما يدّعي، أم هو مساهم في جهود أعدائها لبث اليأس والإحباط والاستسلام لهم.
لماذا يحاولون أن يفقدونا قيمة لغتنا التي هي من أهم منجزاتنا؟.
Source link