إن السؤال عن الهدف من هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة محط اهتمام لدى كثير من الناس، فحيثيات الهجرة ابتداء من الدوافع والصبر والتريث إلى اتخاذ القرار وتنفيذه وما وازى ذلك من أحداث ومخاطر، كل ذلك كان من الممكن تجنّبه بقدرة إلهية تجعل الارتحال أشبه برحلة الإسراء والمعراج، لكنها حكمة الله في تدبير الأمور وتفصيلها، لكي لا يكون للناس حجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما من بلاء يساق إليه البشر إلا كان له نصيب منه، وما من ألم يتجرعه المرء في حياته إلا كان لرسولنا الكريم حصة منه، فسيرته العطرة منهج حياتي متكامل لمن يؤمن ويقرأ ويعي.
بالنظر إلى واقع المسلمين في مختلف العصور والأزمان تبدو قصة الهجرة منهجا دعويا متجددا، وكأن الدروس والعبر المستفادة من هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هُيئت لقدر من أقدار المسلمين. فالهجرة هي الخروج من أرض إلى أخرى، والانتقال من مكان إلى آخر سعيا وراء هدف ما، قد يكون سعيا وراء الرزق أو هربا للنجاة من خطر محدق محقق. أما هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهي خروجه من مكة إلى المدينة في غرّة شهر محرّم عام 622م، فرارا من تدبير القوم له وللشروع بإنشاء دولة الإسلام وبنائها وتثبيتها. وبهجرته -صلى الله عليه وسلم- يبدأ التقويم الهجري لدى المسلمين إيذانا بولادة جديدة وخلق متين للدين العظيم.
لم يذكر القرآن صراحة لفظ الهجرة من مكة إلى المدينة، وإنما نقل لنا الحدث في سورة التوبة واصفا رفقة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لرسولنا الكريم بأرقّ ما يمكن من حديث الأنس بالرفيق والصديق، وجعله نصرا ربانيا مؤزّرا، إذ قال ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾. فقد كان خروج رسول الله من مكة ثقيلا على نفسه، ولا عجب في ذلك، فهي عماد الأصل ومسقط الرأس ومربع الصبا، وممّا أثر عنه مخاطبا مكة قوله وهو يهاجر منها “واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إليَّ ولولا أن أَهْلَكِ أخرَجوني منكِ ما خَرجتُ”. كما أن التعبير القرآني يؤكد أن هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كان فيها تدافع حقيقي ونفسي بين المسلمين والمشركين، فقد جاء بيان ذلك في سورة آل عمران في قوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾.
تفصل الهجرة النبوية في تاريخ الإسلام بين عهدين اثنين؛ أولهما العهد المكي الذي اعتمد على بناء الإنسان المسلم من الداخل وإصلاحه وترسيخ العقيدة الإسلامية لديه، والثاني هو العهد المدني الذي أسس للتشريع الإسلامي وإقامة دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة. وفي توصيف المهاجرين والأنصار يقول الله تعالى في سورة الأنفال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ…(72) … (73) وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٌ وَرِزۡقٌ كَرِيمٌ (74)﴾.
وقد نالت الهجرة النبوية اهتماما واسعا لدى الشعراء على مر العصور، وفصّلوا فيها وذكروا أحداثها، ويمكن أن ينضوي جلّ ما ذكروه منها تحت عناوين محددة، كالباعث على الهجرة وأسبابها، وأحداث الهجرة نفسها كنوم علي بن أبي طالب في فراش رسول الله، ولحاق سراقة برسول الله طمعا بالجائزة التي رصدتها قريش لمن يعثر على رسول الله ويدلّهم على مكانه، وما جرى عند غار ثور واختباء رسول الله مع صاحبه أبي بكر، وقصة أم معبد وناقتها العجفاء، والوصول إلى المدينة المنورة واستقبال الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
الباعث على الهجرة وأسبابها
لم تكن هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة بسبب كفر أهلها وصدودهم عن الإسلام فحسب، بل لإمعانهم في الأذى والظلم للمسلمين والتضييق عليهم، فالظلم والتعذيب وإلحاق الضرر بالمسلمين كان الباعث الأول على الهجرة، وفي ذلك يقول الشاعر العراقي وليد الأعظمي:
هاجرت يا خير خلق الله قاطبــةً
من مكــة بعد ما زاد الأذى فيها
هاجرت لما رأيت الناس في ظلـم
وكنت بــدرا مـــنيرا في دياجيهـا
هاجرت لما رأيت الجهل منتشـرا
والشــر والكفـــر قد عمّ بواديهـا
وفي المعنى نفسه نجد الشاعر محمود سامي البارودي متعجبا من أذى قريش لخير أبنائها، وهم أهل عقل وبيان ونباهة، إذ يقول:
إِنّي لَأَعجَبُ مِن قَومٍ أُولي فِطَنٍ
باعُوا النُّهى بِالعَمى وَالسَّمعَ بِالصَّمَمِ
يَعصُونَ خالِقَهُم جَهلاً بِقُدرَتِهِ
وَيَعكُفُونَ عَلى الطاغُوتِ وَالصَّنَمِ
علي بن أبي طالب الفدائي الأول في أحداث الهجرة النبوية
بعد أن أذن رسول الله للمسلمين بالهجرة من مكة إلى المدينة بقي مع علي بن أبي طالب وصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وبيّت نيّة الهجرة والسير إلى المدينة المنورة، فجاءه جبريل -عليه السلام- بنبأ تدبير القوم له واتفاقهم على قتله، إذ اقترح أبو الحكم آنذاك أن يختاروا فتى شابا قويا جلدا من كل قبيلة ويزوّدوه بسيف صارم، ثم يعمدوا بهؤلاء الفتيان جميعا إلى فراشه عليه الصلاة والسلام فيطعنوه طعنة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل ويضيع ثأره. لكن حكمة الله وعصمة رسوله من القتل محقت تدبير القوم وردت كيدهم إلى نحورهم، فقد جاء جبريل إلى رسول الله ونبّهه، فأشار إلى علي أن يردّ ودائع القوم بدلا منه فهو الصادق الأمين كما عرفوه وإن عادوه وكادوا ودبروا له، وطلب منه أن ينام في فراشه، وخرج رسول الله من بين القوم وقد عميت أبصارهم عنه بمشيئة الله، وقلبه مطمئن إلى سلامة علي ونجاته من تدبير القوم بإذن الله تعالى.
وقد تناول الشعراء هذه الواقعة، وصار علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الفدائي الأول في تاريخ أحداث الهجرة النبوية، فلننظر إلى قول الشاعر المصري طلعت المغربي واصفا ما جرى:
وتَجَمَّعَ القَوْمُ الِّلئَامُ بِبَابِكُمْ
بِاللاّتِ قَدْ حَلَفُوا وبِالآَبَاءِ
لا يَنْجُوَنَّ (مُحَمَّدٌ) مِنْ بَيْنِنا
أَوْ أَنَّنَا نُمْحَى مِنَ الغَبْرَاءِ
شَاهَتْ وُجوهُ القَوْمِ يَا خَيْرَ الوَرَى
ومَضَيْتَ أنْتَ بِعِزَّةٍ ومَضَاءِ
ومَعَ الذي قَدْ نَالَكُمْ مِنْ كَيْدِهِمْ
هَا أَنْتَ (أَحْمَدُ) سَيِّدُ الأُمَنَاءِ
لِلْقَوْمِ عِنْدِي يَا عليُّ ودَائِعٌ
أنَا لا أخُونُهُمُ وهُمْ أعْدَائِي
نَمْ يَا علىُّ لكَيْ تَرُدَّ ودَائِعَا
أَعْظِمْ بِكُمْ مِنْ قِمَّةٍ شَّمَّاءِ
أعْظِمْ بهذا الخُلْقِ أيْنَ مِثَالُهُ
أعْظِمْ بِهَا مِنْ مِنَّةٍ وَوَفَاءِ
هُمْ يَمْكُرُونَ … يُدَبِّرُونَ لِقَتْلِكُمْ
وتُفَكِّرُونَ بِرَدِّ ذِي الأَشْيَاءِ
ويَنَامُ مُشْتَمِلاً عَلىُّ بِبُرْدِكُمْ
أَنْعِمْ بِهَذِي البُرْدَةِ الخَضْراءِ
يَفْدِيكُمُ بِالرُّوحِ لَمْ يَعْبَأْ بِهَا
يَفْدِيكُمُ حَقَّاً بِخَيْرِ فِدَاءِ
المَوْتُ خَلْفَ البَابِ يَنْظُرُ نَحْوَهُ
لَكِنَّهُ يَعْلو عَنِ النُّظَرَاءِ
يَا دَهْرُ سَجِّلْ لا تَكُنْ مُتَوَانِيَاً
هَذا النَّمُوذُجُ عَزَّ في دُنْيَائِي
ويقول الشاعر البارودي واصفا الحادثة نفسها، وكيف خرج رسول الله من بينهم وهو يقرأ سورة يس وقد عميت أبصارهم عنه:
فَجاءَ جِبريلُ لِلهادِي فَأَنبأَهُ
بِما أَسَرُّوهُ بَعدَ العَهدِ وَالقَسَمِ
نادى عَلِيّاً فَأَوصاهُ وَقالَ لَهُ
لا تَخشَ وَالبَس رِدائي آمِناً وَنَمِ
وَمَرَّ بِالقَومِ يَتلُوُ وَهوَ مُنصَرِفٌ
يَس وَهيَ شِفاءُ النَّفسِ مِن وَصَمِ
فَلَم يَرَوهُ وَزاغَت عَنهُ أَعيُنُهُم
وَهَل تَرى الشَّمس جَهراً أَعيُنُ الحَنَمِ
في غار ثور الأحداث والمعاني
حدثنا الله تعالى في محكم التنزيل في سورة التوبة عن أُنس رسول الله بصاحبه إذ هما في الغار وتثبيت بعضهما في رحلة الهجرة، وذلك في قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. وقد صوّر الشعراء مكوث رسول الله وصاحبه في الغار، فانظر إلى ما قاله الشاعر وليد الأعظمي:
هاجرت لله تطوي البيد مصطحبا
خلا وفـــيـا كريم النفس هاديها
هــــو الإمـــام أبو بكـــر وقصّتــه
ربّ السماوات في القرآن يرويها
يقول في الغار “لا تحزن” لصاحبه
فحســــبنا الله ما أسمـى معــانيهـا
وجاء تصوير بقائهما في الغار في شعر بديع لمحمود سامي البارودي، إذ وصف الحمامتين اللتين وضعتا بيضهما والعنكبوت التي نسجت بيتها إيهاما للمشركين بخلو الغار ودفعهم عنه، إذ قال:
وَجاءَهُ الوَحيُ إِيذانا بِهِجرَتِهِ
فَيَمَّمَ الغارَ بِالصِّدِّيقِ في الغَسَمِ
فَما اِستَقَرَّ بِهِ حَتّى تَبَوَّأَهُ
مِنَ الحَمائِمِ زَوجٌ بارِعُ الرَّنَمِ
بَنى بِهِ عُشَّهُ وَاِحتَلَّهُ سَكنا
يَأوي إِلَيهِ غَداةَ الرّيحِ وَالرّهَمِ
وَسَجفَ العَنكَبُوتُ الغارَ مُحتَفِيا
بِخَيمَةٍ حاكَها مِن أَبدَعِ الخِيَمِ
قَد شَدَّ أَطنابَها فَاِستَحكَمَت وَرَسَت
بِالأَرضِ لَكِنَّها قامَت بِلا دِعَمِ
وَارَت فَمَ الغارِ عَن عَينٍ تُلِمُّ بِهِ
فَصارَ يَحكي خَفاءً وَجهَ مُلتَثِمِ
فَيا لَهُ مِن سِتارٍ دُونَهُ قَمَرٌ
يَجلُو البَصائِرَ مِن ظُلمٍ وَمِن ظُلَمِ
فَظَلَّ فيهِ رَسولُ اللَّهِ مُعتَكِفا
كَالدُرِّ في البَحر أَو كَالشَمسِ في الغُسَمِ
ويصور الشاعر أنس الدغيم هذه المعاني البديعة حين يقول:
كان الطريقُ مُطوَّقا بحمامةٍ
لم تبنِ عُشّا بل بنَتْ محرابا
لا حُزنَ فيهِ معيّةُ المولى هنا
بدمِ الرّضا تتحسّسُ الأعصابا
اتخاذ عبد الله بن أريقط “المشرك” دليلًا في الطريق ووداع مكة
يرد اسم عبد الله بن أريقط في أحداث الهجرة النبوية، فهو الدليل المشرك الذي أوصل رسول الله وصاحبه إلى المدينة المنورة، وكان معروفا بمهارته في الطرقات والهداية، وإن تساءلتم عن اعتناقه الإسلام فلن تجدوا جوابا دقيقا، إذ ذهب بعض مؤرخي السيرة إلى أنه أسلم ويعدّ من الصحابة كالذهبي، وذهب بعضهم إلى أنه لم يثبت إسلامه. أما الشعراء فلم يفوّتوا هذا التفصيل من أحداث الهجرة، إذ يقول طلعت المغربي متحدثا عن الدليل وعن حزن رسول الله حين غادر مكة قائلا:
وصَحِبْتُمَا (ابنَ أُرَيْقِطٍ) لِيَدُلَّكُمْ
فهوَ الخَبِيْرُ بِهَذهِ البَيْدَاءِ
وخرَجْتَ تَبْغِي في الأَبَاعِدِ نُصْرَةً
إِنَّ الأَقَارِبَ أَتْعَسُ التُّعَسَاءِ
ونَظَرْتَ خَلْفَكَ والدَّمُوعُ غَزِيْرَةٌ
يَا أرْضَ مَكَّةَ أَطْهَرَ الأَرْجَاءِ
يَا بُقْعَة ً عِنْدَ الإِلَهِ عَزِيزَةً
وكذَاكَ عِنْدِي بَلْ وأنْتِ شِفَائِي
واللهِ حُبُّكِ أنتِ يَجْري في دَمِي
لَكِنَّ أَهْلَكِ قَرَّرُوا إِقْصَائِي
يَا مَهْبِطَاً للوَحي إِنِّي أَرْتَجِي
مِنْ عِنْدِ رَبِّى مِنَّة ً بِلِقَاءِ
إنَّ الذي فَرَضَ الكِتَابَ عليكُمُ
سَيرُدَّكمْ يَوْمَاً مِنَ السُّعَدَاءِ
يَوْمَاً سَتَفْتَحُ ذلِكَ البَلَدَ الذَي
غادَرْتَهُ في حَلْكَةِ الظَّلْمَاءِ
مع بداية كل عام هجري جديد نستذكر أحداث هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتشحن القلوب بحبه عليه صلوات ربي وسلامه، وتشحذ النفوس للمضي قدما اتباعا لمنهجه القويم وذودا عنه، ولنا في تفاصيل حياته وأحداث هجرته ما نتسلى به عن كروب هذه الحياة الدنيا ونتقوى به وعيا بحقيقة العبور نحو الدار الآخرة سائلين الله أن يكتب للمسلمين نصرا وفرجا قريبا.